يا من انحنى ظهرُه لا تعبًا، بل توقيرًا لِرزقٍ يُلملمه من أطراف التعب…
كأن الأيامَ تمضغ ضلوعه بصمت، وتسكب في عينيه حبرَ الليالي التي لم نرَها.
تلك التجاعيد ليست طيّات عمر، بل خرائط لتضاريس الكفاح،
وملامحه القديمة، ليست هرماً من وهن، بل منارة ارتفعت في العتمة لنهتدي بها.
حين يشتعل بياضُ رأسه، لا تقل: “شاخ أبي”،
بل قل: “أضاء من فرط ما صبر، وما أخفى، وما دفن في صدره من وجعٍ بلا عزاء.”
فهو الصامتُ الذي إن نطق، توقفت اللغة لتستمع،
وهو السائر على أشواك الأيام، لا حذاء له إلا عزيمته،
ولا ظلّ إلا دعاؤه حين يُنادي: اللهم استرهم من بعدي.
هو الأب… الكائنُ الذي يشبه الجبل، لا من صخر، بل من صبرٍ متجذّر في اللحم والوجدان،
يمضي بيننا كأنه عابر سبيل في بيتٍ بناه بيديه، لا يطلب جزاءً، ولا ينتظر عرفانًا.
صوته حين ينكسر، لا يُسمع، لكنّه يُحدث صدعًا في قلبِ من يفهم.
تراه يجمع فتاتَ عمره، ويزرعه في أعمارنا…
كأن الزمن يستدين منه، ليقرضنا حياةً أكثر أمنًا.
وفي كلّ تنهيدةٍ يطلقها بعد تعب، يسقط جزء من شبابه، ويقوم فينا جيل.
شيبُه ليس نذير رحيل، بل راية انتصار رفرف بها على سطوح الوجع،
وقال للدنيا: لم تهزمي رجولتي، وإن هشّمتِ ظهري.
وإذا رأيته ساكنًا، فاعلم أن السكون فيه ضجيجٌ من تضحيات لم تُروَ،
وأمنياتٍ ذابحة خبّأها تحت وسادته كي لا نراها تتألم