بدأ كُل شيء قَبل يومين، عندمَا أخرجنا والدي الخبّاز من الفُرن و وضعنَا بأنامِله الدافئة الحنُونة في كيس شفّاف، بعد دقائق جاء شخص انِيق، مَلابِسه مرتّبة كمسألة رياضيّة، و تسريحة شعره تُشبه بُستانًا فلّاحه نشيط و مرّتب، اخذنَا معهُ و عاد قاطعًا الشارع بخطواتٍ سريعة ليتفَادى قدر المُستطاع اكبر كميّة من قطرات المَطر، وصل اخيرًا و وضعنا بجانبه على مقعد سيّارة رانج رُوڤر فَخمة و طازجة، كانت السيّارة حديثة للحد الذي تشعُر به انها خرجت للتّو من المصنَع مثلنا تمامًا..
كُنا عائلة محظُوظة جدًا، بنينَا آمالًا عاليّة، و سر سعادتنا يكمُن في اننا سنكُون بجوار وجبات راقيّة على طاولة عشاء خشبيّة دافئة، وصَل الرجُل الى مَنزِله ووضعنا على طاولة المَطبخ بجوار خُبزة فرنسيّة، كانَت خُبزة حُلوة، قوامهَا رشِيق، حبّات السِمسم على جِلدها الأسمَر مُغريّة جدًا، كانت تُشبه عارضات الأزياء اللاوتي يتم تصوِيرهِنّ في إعلانات مطاعم الوجبات السرِيعة، خطَفت عجِيني و حبّات دقيقي، و شعرتُ بأنّني قد عُدت مثلما وُلدت فكُنت الرغيفٌ الدافئ الرطب مرّة اخرى، شعرت و كأنني لم أخرُج بعد من الفُرن و انا اتأملها، فوُلدَت اوّل امنيَة بين ثغرات عجينتي و كانت انني اودّ لو كنت معها في كيسٍ واحِد بحياة اخرى.
عندما حلّ المسَاء اجتمَعت العائلة و كُنا نحن قد تأهبّنا لمصيرنا الذِي خُلقنا لأجله، لأنّ نُؤكل.. فَوُضعنَا على زاوية طاولة تقدّر مساحتها بمساحة ملعب كُرة قدم، واسعة جدًا و عليهَا وُضعوا اكثر من عشرِين طبَق، كانوا قَد أعدّوا البيض بكل اشكالِه المُمكنة، لا أعلم لمَاذا هذه الأشكال و المُسميَات المُختلفة تؤثّر على هؤلاء البشر، لا فرق بالنهاية، كل تلك الأطباق بإمكاننا ان نُطلق عليها اسم بيض و بإمكاننا ان نتذوّق بها طعم البيض، و لكِن هؤلاء البشر يحبّون المظاهر كثيرًا و يهتمُون اكثر بالسُمعة.
بدأت المعركَة، و قد كانت حبيبتي الفرنسيّة اوّل الضحايا قالت السكّين لنَا بعد ان قطعتها انهَا كانت طريّة جدًا و كأنهَا تخبئ خلف جِلدها الأسمر المُثير سرب غيمات، استسلمَت حبيبتي التي لم تُحبّني للسكين بسلاسة المياه و بليُونة راقصات الباليه و بشجاعة المُصارعين الرُومانيين، لم تكُن تبالي بكل تلك الآلام، اهدتني ظهرها و رحلت مع أمنيتِي الأولى و شبابها لتُمارس طبيعتها، لحِق بها بطرِيقة اقل جماليّة و اكثر وجعًا افراد عائلتِي، شعرتُ بالوحشَة، كنت اتحوّل الى رغيفٍ وحيد بالتدرِيج و للأسف لم يأكلنِي احدًا مِنهم.
وجدتنِي فجأة في يومٍ آخر على رصيفٍ ما و الشَمس فوقِي تحدّق بِي بشفقة، و تحاول ان تحجِب نفسها عنّي بأيّ غيمة تتسكّع في السماء ولكن بلا جدوى، كُنت رغيفًا خائفًا و يابسًا وقتها و انتظِر ايّ شيء ليُخلصني من هذا العَالم الذي لا يُناسبني، هذا الرصِيف للمُدخنين، للضائعين، للعائدين الى منازلهم، للمُشردّين، للمطأطئين رؤوسهم، للذاهبين الى حبيباتهم، للناجِين من حوادث الفراق. الرصِيف لا يناسب ابدًا رغيف خُبزٍ قررت الحيَاة ان تكسِره، لا ان تُقطّعه برِفق.
اخيرًا اقترَب طائر منّي، و كنت قَد تحوّلت الى اشلاء وقتها بعد ان دهستنِي الأيام و هي تعبر الرصيف، بدأ الطائر يُلملمني بمِنقاره و يبتلعنِي قطعة قطعة، شعرتُ بدفء كُنت قد اشتقت له، كانت في أمعاء الطائر فتاة حُلوة تطلق على نفسها اسم “حريّة” كَانت مرِيحة كالسّماء الصّافية، و عيناها دافئتان كفُرن والدي الخبّاز، شعرتُ اخيرًا و انّ طبيعتي قدّ خلصتنِي من تلك الحيَاة الجافّة التي أهملتني، و ساعدني الطَائر اكثَر لأن اتعافى بشكلٍ اسرع عندمَا طار مُبتعدًا عن الرصِيف، و عن المدينة، فتركتُ انا الحياة ايضًا و هي تُمارس طبيعتها بالأسفل.
على كل شيء ان يُمارس طبيعته بالنّهاية و الا لن يكون هناك فائدة من وجُوده، و انا كنت رغيفًا حُرَم من طبيعته، فكنت بسبب ذلك جزء لمكانٍ لا تناسبني طبيعته، فتيبست و كُسرت، الى ان أنقذني ذلك الطائر بمحض الصُدفة، او لأنه كان يمارس طبيعته هو ايضًا.